سورة الأحقاف - تفسير تفسير الماوردي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحقاف)


        


قوله عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْه إحْسَاناً} في قراءة أهل الكوفة وقرأ الباقون حسناً. قال السدي: يعني براً.
{حَمَلْتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} أي حملته بمشقة ووضعته بمشقة. وقرئ كرهاً بالضم والفتح. قال الكسائي والفراء في الفرق بينهما أن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره.
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَ ثُونُ شَهْراً} الفصال مدة الرضاع، فقدر مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً، وكان في هذا التقدير قولان:
أحدهما: أنها مدة قدرت لأقل الحمل وأكثر الرضاع، فلما كان أكثر الرضاع أربعة وعشرين شهراً لقوله تعالى: {حَولَينِ كَامِلَينِ لِمَنْ أَرادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] دل ذلك على أن مدة أقل الحمل ما بقي وهو ستة أشهر، فإن ولدته لتسعة أشهر لم يوجب ذلك نقصان الحولين في الرضاع، قاله الشافعي وجمهور الفقهاء.
الثاني: أنها مدة جمعت زمان الحمل ومدة الرضاع، فإن كانت حملته تسعة أشهر؛ أرضعته أحداً وعشرين شهراً، وإن كانت حملته عشرة أشهر أرضعته شهراً لئلا تزيد المدة فيهما عن ثلاثين شهراً، قاله ابن عباس.
{حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} وفي الأشد تسعة أقاويل:
أحدها: أنه البلوغ، قاله ابن مالك والشعبي وزيد بن أسلم.
الثاني: خمسة عشر سنة، قاله محمد بن أويس.
الثالث: ثماني عشرة سنة، قاله ابن جبير.
الرابع: عشرون سنة، قاله سنان.
الخامس: خمسة وعشرون سنة، قاله عكرمة.
السادس: ثلاثون سنة، قاله السدي.
السابع: ثلاثة وثلاثون سنة، قاله ابن عباس.
الثامن: أربعة وثلاثون سنة، قاله سفيان الثوري.
التاسع: أربعون سنة، وهو قول عائشة، والحسن.
{وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: لأنها زمان الأشد، وهو قول من ذكرنا.
الثاني: لأنها زمان الاستواء، قال زيد بن أسلم: لم يبعث الله نبياً حتى يبلغ الأربعين.
وقال ابن زيد: وقوله تعالى لموسى {وَاسْتَوَى} قال بلغ أربعين سنة. وقال الشعبي: يثغر الغلام لسبع ويحتلم لأربع عشرة، وينتهي طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين، فما زاد بعد ذلك فهو تجربة ويبلغ أشده لثلاث وثلاثين.
الثالث: لأنها أول عمر بعد تمام عمر، قال ابن قيس.
{رَبِّ أَوْزِعْنِي} قال سفيان معناه ألهمني.
قال ابن قتيبة: والأصل في الإيزاع هو الإغراء بالشيء، ويقال فلان موزع بكذا أي مولع به.
{أَن أَشْكُر نِعْمَتَكَ الَّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أنعمت علي بالبر والطاعة، وأنعمت على والدي بالتحنن والشفقة.
الثاني: أنعمت عليَّ بالعافية والصحة، وعلى والديَّ بالغنى والثروة، وفي النعمة على كل واحد منهما نعمة على الآخر لما بينهما من الممازجة والحقوق الملتزمة.
وحكى أبو زهير عن الأعمش قال: سمعتهم يقولون إن الولد يأتيه رزقه من أربع خلال: يأتيه رزقه وهو في بطن أمه، ثم يولد فيكون رزقه في ثدي أمه، فإذا تحرك كان رزقه على أبويه، فإذا اجتمع وبلغ أشده جلس يهتم للرزق ويقول من أين يأتيني رزقي، فاختصت الأم بخلتين من خلال رزقه، واشترك أبوه في الثالثة، وتفرد هو بالرابعة، فذهب عنه الهم لما كان موكلاً إلى غيره، واهتم لما صار موكلاً إلى نفسه ليتنبه بذلك على التوكل على خالقه ليكون نقى لهمته وأقل لحيرته وأدرّ لرزقه، وليعلم أن لأمه عليه حقاً يعجز عن أدائه لما عانت من موارد رزقه ما عجز الخلق عن معاناته.
{وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} يحتمل وجهين:
أحدهما: في بر الوالدين.
الثاني: في ديني.
{وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَتِي} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يدعو بإصلاحهم لبره وطاعته لإضافته ذلك إلى نفسه.
الثاني: أن يدعو بإصلاحهم لطاعة الله وعبادته وهو الأشبه، لأن طاعتهم لله من بره، ولأنه قد دعا بصلاح ذرية قد تكون من بعده.
وفيه لأصحاب الخواطر أربعة أوجه:
أحدها: قاله سهل: اجعلهم لي خلف صدق ولك عبيد حق.
الثاني: قاله أبو عثمان: اجعلهم أبراراً، أي مطيعين لك.
الثالث: قاله ابن عطاء وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم.
الرابع: قاله محمد الباقر رضي الله عنه: لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلاً.
{إنِّي تُبْتُ إِِلَيكَ} قال ابن عباس: رجعت عن الأمر الذي كنت عليه.
وفي هذه الآية قولان:
أحدهما: أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قاله مقاتل والكلبي.
الثاني: مرسلة نزلت على العموم، قاله الحسن.
قوله عز وجل: {أُوْلَئكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنهم إذا أسلموا قبلت حسناتهم وغفرت سيئاتهم، قاله زيد بن أسلم يحكيه مرفوعاً.
الثاني: هو إعطاؤهم بالحسنة عشراً رواه أبو هلال.
الثالث: هي الطاعات لأنها الأحسن من أعماله التي يثاب عليها وليس في المباح ثواب ولا عقاب، حكاه ابن عيسى.
{وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِم فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: نتجاوز عن سيئاتهم بالرحمة.
الثاني: نتجاوز عن صغائرهم بالمغفرة.
الثالث: نتجاوز عن كبائرهم بالتوبة.
{وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ} وعد الصدق الجنة، الذي كانوا يوعدون في الدنيا على ألسنة الرسل.


قوله عز وجل: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لكُمَا أَتَعِدَانَنِي أَنْ أُخْرَجَ}: أي أبعث.
{وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي} فلم يبعثوا. وفيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وأمه أم رومان. يدعوانه إلى الإسلام ويعدانه بالبعث فيرد عليهما بما حكاه الله عنه، وكان هذا منه قبل إسلامه، قاله السدي.
قال السدي: فلقد رأيت عبد الرحمن بن أبي بكر بالمدينة، وما بالمدينة أَعْبَدُ منه، ولقد استجاب الله فيه دعوة أبي بكر رضي الله عنه، ولما أسلم وحسن إسلامه، نزلت توبته في هذه الآية {وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُواْ}.
الثاني: أنها نزلت في عبد الله بن أبي بكر، وكان يدعوه أبواه إلى الإسلام فيجيبهما بما أخبر الله تعالى، قاله مجاهد.
الثالث: أنها نزلت في جماعة من الكفار قالوا ذلك لآبائهم ولذلك قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيهِم الْقَوْلُ} والعرب قد تذكر الواحد وتريد به الجمع وهذا معنى قول الحسن. فأما ال {أُفٍّ} فهي كلمة تبرم يقصد بها إظهار السخط وقبح الرد. قال الشاعر:
ما يذكر الدهر إلا قلت أف له *** إذا لقيتك لولا قال لي لاقي
وفي أصل الأف والتف ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الأف وسخ الأذن، والتف وسخ الأنف.
الثاني: الأف وسخ الأظفار، والتف الذي يكون في أصول الأظافر.
الثالث: أن الأف العليل الأنف، والتف الإبعاد.
{وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّه} أي يدعوان الله: اللهم اهده، اللهم اقبل بقلبه، اللهم اغفر له.
{وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} في الثواب على الإيمان، والعقاب على الكفر.
قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} يحتمل أربعة أوجه:
أحدها: معناه أذهبتم طيباتكم في الآخرة بمعاصيكم في الدنيا.
الثاني: ألهتكم الشهوات عن الأعمال الصالحة.
الثالث: أذهبتم لذة طيباتكم في الدنيا بما استوجبتموه من عقاب معاصيكم في الآخرة.
الرابع: معناه اقتنعتم بعاجل الطيبات في الدنيا بدلاً من آجل الطيبات في الآخرة.
وروى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: لأنا أعلم بخفض العيش، ولو شئت لجعلت أكباداً وأسنمة وصلاء وصناباً وسلائق، ولكن أستبقي حسناتي، فإن الله تعالى وصف قوماً فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} والصلاء، والشواء، والصناب الأصبغة والسلائق الرقاق العريض.
وقال ابن بحر فيه تأويل خامس: أن الطيبات: الشباب والقوة، مأخوذ من قولهم: ذهب أطيباه أي شبابه وقوته. ووجدت الضحاك قاله أيضاً.
{وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} يحتمل وجهين:
أحدهما: بالدنيا.
الثاني: بالطيبات.
{فَالْيَوْمَ تُجْزَونَ عَذَابَ الْهُونِ} قال مجاهد: الهون الهوان. قال قتادة بلغة قريش.
{بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ} يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: تستعلون على أهلها بغير استحقاق.
الثاني: تتغلبون على أهلها بغير دين.
الثالث: تعصون الله فيها بغير طاعة.
{وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} يحتمل وجهين:
أحدهما: تفسقون في أعمالكم بغياً وظلماً.
الثاني: في اعتقادكم كفراً وشركاً.


قوله عز وجل: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ} وهو هود بعث إلى عاد، وكان أخاهم في النسب لا في الدين لأنه مناسب وإن لم يكن أخا أحد منهم.
{إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ} وهي جمع حقف، وهو ما استطال واعوج من الرمل العظيم، ولا يبلغ أن يكون جبلاً. ومنه قول العجاج:
بات إلى أرطاة حقف أحقفا ***....................
أي رمل مستطيل مشرق.
وفيما أريد بالأحقاف هنا خمسة أقاويل:
أحدها: أن الأحقاف رمال مشرقة كالجبال، قاله ابن زيد، وشاهده ما تقدم، وقال هي رمال مشرقة على البحر بالسحر في اليمن.
الثاني: أن الأحقاف أرض من حسمي تسمى الأحقاف، قاله مجاهد.
الثالث: أنه جبل بالشام يسمى الأحقاف، قاله الضحاك.
الرابع: هو ما بين عمان وحضرموت، قاله ابن إسحاق.
الخامس: هو واد بين عُمان ومهرة، قاله ابن عباس.
وروى أبو الطفيل عن علي كرم الله وجهه أنه قال: خير واد بين في الناس واد بمكة، وواد نزل به آدم بأرض الهند، وشر واديين في الناس وادي الأحقاف، ووادٍ بحضرموت يدعى برهوت تلقى فيه أرواح الكفار، وخير بئر في الناس بئر زمزم، وشر بئر في الناس بئر برهوت وهي ذلك الوادي حضرموت.
{وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي قد بعث الرسل من قبل هود ومن بعده، قال الفراء، من بين يديه من قبله، ومن خلفه من بعده وهي في قراءة ابن مسعود: {مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ بَعدِهِ}.
قوله عز وجل: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأفِكَنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا} فيه وجهان:
أحدهما: لتزيلنا عن عبادتها بالإفك.
الثاني: لتصدنا عن آلهتنا بالمنع، قاله الضحاك.
قوله عز وجل: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتهِمْ} يعني السحاب. وأنشد الأخفش لأبي كبير الهذلي:
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه *** برقت كبرق العارض المنهال
وفي تسميته عارضاً ثلاثة أقاويل:
أحدها: لأنه أخذ في عرض السماء، قال ابن عيسى.
الثاني: لأنه يملأ آفاق السماء، قال النقاش.
الثالث: لأنه مار من السماء. والعارض هو المار الذي لا يلبث وهذا أشبه.
{قَاُلواْ هَذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} حسبوه سحاباً يمطرهم، وكان المطر قد أبطأ عليهم.
{بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذابٌ أَلِيمٌ} كانوا حين أوعدهم هود استعجلوه استهزاء منهم بوعيده، فلما رأوا السحاب بعد طول الجدب أكذبوا هوداً وقالوا: هذا عارض ممطرنا.
ذكر أن القائل ذلك من قوم عاد، بكر بن معاوية. فلما نظر هود إلى السحاب قال: بل هو ما استعجلتم به، أي الذي طلبتم تعجيله ريح فيها عذاب أليم وهي الدبور.
وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نُصِرْتُ بِالصبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ»
فنظر بكر بن معاوية إلى السحاب فقال: إني لأرى سحاباً مُرْمِداً، لا يدع من عَادٍ أحداً. فذكر عمرو بن ميمون أنها كانت تأتيهم بالرجل الغائب حتى تقذفه في ناديهم.
قال ابن اسحاق: واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه هو ومن معه فيها إلا ما يلين على الجلود وتلتذ الأنفس به، وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض.
وحكى الكلبي أن شاعرهم قال في ذلك:
فدعا هود عليهم *** دعوة أضحوا همودا
عصفت ريح عليهم *** تركت عاداً خمودا
سخرت سبع ليال *** لم تدع في الأرض عودا
وعمَّر هود في قومه بعدهم مائة وخمسين سنة

1 | 2 | 3